نعاءِ إلى كلِّ حيٍّ نعاءِ قصيدة أبو تمام
نعاءِ إلى كلِّ حيٍّ نعاءِ – أبو تمام
نعاءِ إلى كلِّ حيٍّ نعاءِ … فَتَى العَرَبِ احتَلَّ رَبْعَ الفَنَاءِ
أُصِبْنَا جَمِيعاً بسَهْمِ النضَالِ … فهَلاَّ أُصِبْنَا بِسَهْمِ الغِلاَءِ
ألا أيُّها المَوْتُ فَجَّعْتَنا … بِمَاءِ الحَيَاة ِ ومَاءِ الحَيَاءِ
فماذا حضرتَ بهِ حاضراً … وماذا خبأتَ لاهلِ الخباءِ
نعاءِ نعاءِ شقيقَ الندى … إليهِ نَعِيّاً قَلِيلَ الجَدَاءِ
وكانا جميعاً شريكيْ عنانٍ … رضيعيْ لبانٍ خليليْ صفاءِ
على خالدِ بن يزيدَ بن مزْ … يَدِ امْرِ دُمُوعاً نَجيعاً بِمَاءِ
ولا تَريَنَّ البُكَا سُبَّة ً … ألصقْ جوى ً بلهيبٍ رواءِ
فقدْ كثرَ الرزءُ قدرَ الدموعِ … وَقَدْ عَظّم الخَطْبُ شَأْنَ البُكَاءِ
فباطنه ملجأ للأسى … وظاهرهُ ميسمٌ للوفاءِ
مَضَى المَلِكُ الوَائِليُّ الذي … حَلَبْنا به العَيْشَ وُسْعَ الإنَاءِ
فأودى الندى ناضرَ العودِ والـ … ـفتوة ُ مغموسة ً في الفتاءِ
فأضحتْ عليهِ العلى خشعاً … وبَيْتُ السَّمَاحَة ِ مُلْقَى الكِفَاءِ
وقدْ كانَ مما يضيءُ السريرَ … والبَهْوَ يَمْلأَه بِالبَهَاءِ
المُلْكَ عَنْ خالدٍ والمُلُوكَ … بقمعِ العدى وبنفيِ العداءِ
أَلَمْ يَكُ أَقْتَلَهُمْ لِلأسُودِ … صبراً وأوهبهمْ للظباءِ ؟
ألمْ يجلبِ الخيلَ من بابلٍ … شوازبَ مثلَ قداحِ السراءِ
فمدَّ على الثغرِ إعصارها … برأي حسامٍ ونفسٍ فضاءِ
فلما تراءتْ عفاريتُهُ … سنا كوكبٍ جاهليِّ السناءِ
وقَدْ سَدَّ مَنْدُوحَة َ القاصِعَاءِ … مِنهُمْ وأمسَكَ بالنافِقَاءِ
طَوَى أمرَهُمْ عَنْوَة ً في يَدَيْهِ … طَيَّ السجِلّ وَطَيَّ الردَاءِ
أقروا ـ لعمري ـ بحكمِ السيوفِ … وكانتْ أحقَّ بفضلِ القضاءِ
وما بالولاَية ِ إقرَارُهُمْ … ولكنْ أَقرُّوا لَهُ بالوَلاَءِ
أُصِبْنَا بِكَنْزِ الغِنَى والإمَامُ … أمسى مصاباً بكنزِ الغناءِ
وما إن أصيبَ براعي الرعية ِ … لاَ بَلْ أُصيبَ بِرَاعي الرعَاءِ
يَقُولُ النطَاسِيُّ إِذْ غُيبَتْ … عن الداءِ حيلتُه والدواءِ
ونُبُوُّ المَقيلِ بهِ والمَبيتِ … أقعصهُ واختلافُ الهواءِ
وقَدْ كانَ لَوْ رُدَّ غَرْبُ الحِمَامِ … شَدِيدَ تَوَقٍّ طَوِيلَ احتِمَاءِ
مُعَرَّسُهُ في ظِلال السُّيُوفِ … وَمَشْرَبُه مِنْ نَجِيعِ الدمَاءِ
ذُرَى المِنْبَرِ الصَّعْبِ منْ فُرْشِهِ … ونارُ الوغا نارُه للصلاءِ
ومَا مِن لَبُوسٍ سِوَى السَّابِغَاتِ … تَرقْرَقُ مِثْلَ مُتُونِ الإضَاءِ
فهلْ كانَ مذْ كانَ حتى مضى … حَمِيداً لَهُ غيرُ هذا الغِذَاءِ
أذهلَ بنَ شيبانَ ذُهلَ الفخارِ … وذُهْلَ النَّوَالِ وذُهْلَ العَلاءِ
مضى خالدُ بن يزيدَ بن مزْ … يَدَ قَمَرُ اللَّيلِ شَمْسُ الضَّحاءِ
وخلَّى مساعيهُ بينكمْ … فإِيَّايَ فيها وَسَعْيَ البِطَاءِ
ردوا الموتَ مراً ورودَ الرجالِ … وبَكُّوا عليهِ بُكاءَ النساءِ
غَليلي علي خالدٍ خالدٌ … وضيفُ همومي طويلُ الثواءِ
فلَمْ يُخْزِني الصَّبْرُ عنه ولا … تَقَنَّعتُ عاراً بِلُؤمِ العَزَاءِ
تَذَّكرْتُ خَضْرَة َ ذَاكَ الزَّمَانِ … لديهِ وعمران ذاكَ الفناءِ
وزوارُه للعطايا حضورٌ … كأَنَّ حضُورَهُمُ للعطَاءِ
وإذْ علمُ مجلسِهِ موردٌ … زلالٌ لتلكَ العقولِ الظماءِ
تحولُ السكينة ُ دونَ الأذى … بهِ والمُرُوَّة ُ دُونَ المِرَاءِ
وإذْ هوَ مطلقٌ كبلِ المصيفِ … وإذْ هو مفتاحُ قيدِ الشتاءِ
لَقَدْ كانَ حَظي غيرَ الخَسِيسِ … مِنْ رَاحَتَيْهِ وغَيْرَ اللَّفَاءِ
وكنتُ أَرَاهُ بِعَيْنِ الرَّئيس … وكان يراني بعين الإخاءِ
ألهفي على خالد لهفة ً … تكونُ أمامي وأخرى ورائي
ألهفي إذا ما ردى للردى … ألهفي إذا ما احتبى للحباءِ
أَلَحْدٌ حَوَى حَيَّة َ المُلْحِدينَ … ولَدْنُ ثَرى حَالَ دُونَ الثَّرَاءِ؟
جزتْ ملكاً فيه ريَّا الجنوبِ … ورائحة ُ المُزْنِ خَيْرَ الجَزَاءِ
فكَمْ غَيَّبَ التَّرْبُ مِنْ سُؤْدَد … وغَالَ البِلَى مِنْ جِمِيلِ البَلاَءِ
أَبَا جَعْفَرٍ ليُعِرْكَ الزَّمانُ … عزاً ويكسبكَ طولَ البقاءِ
فما مزنُكَ المرتجى بالجهامِ … ولارِيحُنا مِنكَ بالجِرْبِيَاءِ
ولا رجعتْ فيكَ تلكَ الظنونُ … حيارى ولا انسدَّ شعبُ الرجاءِ
وقد نُكِسَ الثَّغْرُ فابعَثْ لَهُ … صدورَ القنا في ابتغاءِ الشفاءِ
فَقَدْ فاتَ جَدُّكَ جَدَّ المُلُوكِ … وعُمْرُ أَبِيكَ حَدِيثُ الضيَاءِ
ولَمْ يَرْضَ قَبْضَتَهُ لِلحُسَامِ … ولا حملَ عاتقِهِ للرداءِ
فما زالَ يفرعُ تلكَ العلى … مع النجمِ مرتدياً بالعماءِ
ويصعدُ حتى لظنَّ الجهولُ … أنَّ لَهُ مَنْزِلاً في السَّماءِ
وقَدْ جَاءَنا أَنَّ تِلْكَ الحُرُوبَ … إذا حديتْ فالتوتْ بالحداءِ
وعاودَها جَرَبٌ لَمْ يَزَلْ … يعاوِدُ أسعافَها بالهناءِ
ويمتحُ سجلاً لها كالسجالِ … ودلواً إذا أفرغتْ كالدلاءِ
ومِثْلُ قُوَى حِبْلِ تلْكَ الذرَاعِ … كانَ لزازاً لذاكَ الرشاءِ
فلا تخزِ أيامَه الصالحاتِ … وما قدْ بنى من جليلِ البناءِ
فَقدْ علِمَ اللَّهُ أَنْ لَنْ تُحِبَّ … شيئاً كحبكَ كنزَ الثناءِ