قد اختَلّ الأنامُ بغيرِ شَكٍّ، قصيدة أبوالعلاء المعري
قد اختَلّ الأنامُ بغيرِ شَكٍّ، – أبوالعلاء المعري
قد اختَلّ الأنامُ بغيرِ شَكٍّ، … فجدّوا في الزّمانِ وألعَبوهُ
وظَنّوا أنّ بوهَ الطّيرِ صَقرٌ، … بجَهلِهمُ، وأنّ الصّقرَ بُوهُ
وَوَدّوا العيشَ في زمنٍ خؤونٍ، … وقدْ عَرَفوا أذاهُ وجَرّبُوه
ويَنشأُ ناشىءُ الفتيانِ، مِنّا … على ما كانَ عَوّدَهُ أبُوه
وما دانَ الفتى بحِجًا، ولكنْ … يُعَلّمُهُ التّدَيّنَ أقرَبُوه
وطِفلُ الفارسيّ لهُ وُلاةٌ، … بأفعالِ التَمَجّسِ دَرّبوه
وضمّ النّاسَ كلَّهمُ هَواءٌ، … يُذلَّلُ، بالحوادثِ، مُصعَبوه
لَعلّ المَوتَ خَيرٌ للبرايا، … وإنْ خافَوا الرّدى وتَهَيّبوه
أطاعوا ذا الخداعِ وصَدّقوه، … وكم نَصَحَ النّصيحُ، فكَذَّبوه
وجاءَتنا شرائعُ كلّ قومٍ، … على آثارِ شيءٍ رَتّبُوه
وغَيّرَ بَعضُهُمْ أقوالَ بَعضٍ، … وأبطَلَتِ النُّهَى ما أوْجَبوه
فلا تَفرَحْ، إذا رَجّبتَ فيهمْ، … فقد رَفَعوا الدّنيَّ، ورَجّبُوه
وبَدّلَ ظاهرَ الإسلامِ رَهطٌ، … أرادوا الطّعنَ فيهِ وشذّبُوه
وما نَطَقُوا بهِ تَشبيبُ أمْرٍ، … كما بَدأ المَديحَ مشَبِّبوه
ويُذكرُ أنّ، في الأيّامِ، يوماً، … يَقومُ من الترابِ مغيَّبوه
وما يحدُثْ، فإنّا أهلُ عصرٍ، … قَليلٌ، في المَعاشرِ، مُنجبوه
صَحِبنا دَهرَنا دهراً، وقِدْماً … رأى الفَضلاءُ أنْ لا يَصحَبوه
وغِيظَ به بنوهُ وغِيظَ منهمْ، … فعَذّبَ ساكِنيهِ وعَذّبوه
ومن عاداتِهِ في كلّ جيلٍ … غَذاهُ، أن يَقِلّ مهَذَّبوه
أساءَ بغَيّهِ أدَباً علَيهمْ، … فهَلْ من حيلَةٍ، فيؤدِّبوه؟
وما يخشَى الوَعيدَ، فيوعدوهُ؛ … ولا يَرعَى العِتابَ، فيُعتِبوه
وهلْ تُرجَى الكرامةُ من أوانٍ، … وقدْ غلَبَ الرّجالَ مغلَّبوه؟
وهلْ، من وقتِهم، أبغى وأطغى، … على أيّ المَذاهبِ قَلّبُوه؟
أجَلّوا مُكثِراً، وتَنصّفوه؛ … وعابوا مَنْ أقَلَّ، وأنّبُوه
ولم يَرْضَوْا ، لما سكنوه، شِيداً، … إلى أن فضّضوه وأذهبوه
فإنْ يأكُلْهُمُ أسَفاً وحِقداً، … فقَد أكَلَ الغَزالَ مُرَبِّبوه
وتلكَ الوحشُ، ما جادوا عليها … بعُشبٍ، غِبَّ نَدٍّ عَشّبوه
يَسورُ الكَلبُ مُجتَهِداً إلَيها، … ويَحظى، بالقنيصِ، مُكلِّبوه
رَجَوْا أن لا يخيبَ لهم دُعاءٌ، … وكم سألَ الفَقيرُ، فخَيّبُوه
وما شأنُ اللّبيبِ بغَيرِ سِلْمٍ، … وإنْ شَهِدَ الوَغَى متَلَبِّبُوه
ألَظّوا بالقَبيحِ، فتابَعوهُ، … ولوْ أُمروا به لتَجَنّبوه
نهاهمْ عن طِلابِ المالِ زُهدٌ، … ونادى الحِرْصُ: وَيبَكُمُ اطلبوه
فألقاها إلى أسماعِ غُثْرٍ، … إذا عَرَفوا الطّريقَ تَنكّبوه
سَعَوا بَينَ اقترابٍ واغترابٍ، … يَمُوتُ بغَصّةٍ متَغَرِّبوه
غَدَوْا قوتاً لمثلِهمُ، تَساوى … خَبيثوهُ، لديهِ، وأطيَبوه
مضَتْ أُمَمٌ على شرخِ اللّيالي، … إذا عَمَدوا لعَقْدٍ أرّبوه
وكم تَرَكوا لَنا أثَراً مُنيفاً، … يَعُودُ بآيَةٍ متأوِّبُوه
لقد عَمَروا، وأقسَمَتِ الرّزايا؛ … لَبِئسَ الرّهطُ رَهْطٌ خَرّبوه
فإمّا عاثَ فيهِ حاسِدُوهُ؛ … وإمّا غَالَهُ مُتكَسِّبوه
وللأرَمَينِ خَطْبٌ مُستَفيضٌ، … يَعومُ بلُجّهِ مُتَعَجِّبوه
ولو قدَروا على إيوانِ كِسرى، … لَسامُوهُ الرّدى، وتَعَقّبوه
وقد مَنّوا برزقِ اللَّهِ جَهلاً، … كأنّهُمُ لباغٍ سَبّبوه
إذا أصحابُ دِينٍ أحكَموهُ، … أذالوا ما سِواهُ وعَيّبُوه
وقد شهِدَ النّصارى: أنّ عيسَى … توَخّتْهُ اليَهودُ، ليَصلِبوه
وقد أبَهُوا، وقد جَعلوه رَبّاً، … لئَلاّ يَنقَصُوهُ ويَجدُبُوه
تَمُجُّ قلوبُهمْ ما أُودِعَتْهُ؛ … لسوءٍ في الغَرائزِ، أُشرِبوه
أضاعوا السرَّ لمّا استُحفِظوهُ؛ … وقد صانوا الأديمَ وسرّبوه
لهم نَسَبُ الرَّغامِ، وذاكَ طُهرٌ، … ولم يَطْهُرْ بهِ متَنَسِّبُوه
ونُبّىء، في بني يعقوبَ، موسَى … بشَرْعٍ ما تَخَلّصَ مُتعَبوه
وقد نضَتِ النّواظرُ، كلَّ عامٍ، … وأترابُ السّعادَةِ مُتربوه
على حَجَرٍ لهم تَهوي جبالٌ، … ولم يَستَعْفِ ذَنباً مُذنِبوه
ودونَ الأبيَضِ المُشتارِ زُغبٌ … لَواسِبُ، عُقنَهمْ أن يَلسِبوه
وقد ركبَ الذينَ مَضوا سَبيلاً … إلى عَليائِهمْ، لم يَرْكَبوه
وحبلُ العيشِ منتَكِثٌ ضَعيفٌ، … ونعمَ الرأيُ أنْ لا تجذِبُوه
وما فَعلَوه، ولكنْ باكَروهُ … بأسبابِ الحِمامِ، فقَضّبوه
فمن سَيفٍ، ومن رُمحٍ وسهمٍ، … ونَصْلٍ أرْهَفُوهُ وذَرّبُوه
وما دَفعَتْ عن المَلِكِ المَنايا … مقانِبُهُ، ولا متَكَتِّبوه
حَسِبتمْ يا بني حَوّاءَ شَيئاً، … فَجاءكُمُ الذي لم تحسبوهُ
وجيرانُ الغَريبِ مُبَغِّضوه … إلى جُلاّسِهم، ومحبِّبوه
فإنْ يُولُوا قَبيحاً يذكُروهُ؛ … وإنْ يَحبُوا يَشيعوا ما حَبوه
تَقولُ الهِندُ: آدَمُ كانَ قِنّاً … لَنا، فسرَى إلَيهِ مخبِّبوه
أولئِكَ يَحرِقونَ المَيتَ نُسكاً، … ويُشعِرُهُ لُباناً مُلهِبُوه
ولو دفَنوهُ في الغَبراءِ، جاءتْ … بما يَسعَى لَهُ مُتَألِّبوه
أُديلَ الشرُّ منكم، فاحذَرُوه، … وماتَ الخَيرُ منكمْ، فاندبوه